نبالغ فى تقدير الحب مونولوج داخلى لشبح

ممدوح رزق :نبالغ فى تقدير الحب مونولوج داخلى لشبح
ممدوح رزق :نبالغ فى تقدير الحب مونولوج داخلى لشبح

ثمة نبرة «رسالية» ثاقبة تسود مجموعة «نبالغ فى تقدير الحب» للكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو التى صدرت بترجمة وئام غداس عن منشورات حياة. لكن هذه النبرة لا تحوّل القصة القصيرة إلى «رسالة» بالشكل التقليدي، وإنما تجعلها أقرب إلى «مونولوج داخلى لشبح»، ذلك لأنها ليست نتاج «مخاطَبة» فحسب، وإنما لأنها ناجمة أيضًا عن انتباه «المخاطِبة» إلى غيابها، إلى السر «الماورائي» المحتمل لغيابها.

«لم يحصل شىء، وأنت لا تحبينه بعد اليوم. تحاولين التثبت. يجب أن تكونى متأكدة. ولكنك لستِ كذلك. أنت تحبينه، فى الحقيقة، ولا تحبينه فى الوقت نفسه. عليكِ أن تقررى، لأن الأمر أصبح مزعجًا بالفعل. تفكرين أنكِ تحبينه، لكنك لا تتحملين أن يقطع الصالون برداء الحمام. أن يجلس أمام التليفزيون بهذه الهيئة، وشعره الذى لا يزال مبللًا مسرّحًا إلى الوراء. تحبينه هو، بلا شك، ولكن هذا المشهد المتكرر يوميًا هو ما يجعلك تنفرين».

اقرأ ايضاً| التحولات في البيئة الاجتماعية السورية.. رؤية مختلفة للمعري

حينما أكتب رسالة لنفسى أو لآخر أو لمجهول؛ فهذا يعنى أن مستقبِلها فى حالة اختفاء مؤقت أو دائم. أننى متورط بطريقة ما فى هذا الاختفاء. ما يحدد طبيعة هذا الاختفاء ليس مضمون الرسالة نفسها وإنما الكيفية التى كُتبت بها أو الطابع الذى يميز أصواتها وطرق الاشتباك فيما بينها، وهذا ما قد ينتقل بالرسالة إلى المونولوج الداخلى، يبدو أن بريجيت جيرو تدرك هذه الخاصية الجمالية جيدًا فاستبعدت أسلوب الرسالة لتجعل من النبرة وحدها غنيمتها التى تتيح للساردة فى قصصها القصيرة حينما تتحدث إلى أحد ما بداخلها أن تخاطب الجميع أيضًا. جعلت من هذه النبرة صوتًا متعددًا ومتصدّعًا لشبح كلما حاول الانفصال عما عاشته نسخته الدنيوية كلما أصبح أكثر احتجازًا فى عتمتها. كلما اكتشف غيابه عن جسده المرئى. كلما أيقن أن اختفاءه  كمستقبِل للرسائل التى يكتبها لنفسه  حدث فى لحظة أبعد من ولادة هذا الجسد.

«ولأننا نحب القصص التى تنتهى نهاية جيدة، فقد تخيلنا أن هذه القصة ستتخذ لها نهاية جيدة فى نهاية الأمر. لقد علمونا أن الأميرة مهما طال نومها تستيقظ فى النهاية. خصوصًا لو أن الأمير ليس بعيدًا».

إن «الساردة» التى يبدو أنها تتحدث إلى نفسها المتعيّنة أو تخاطب آخر محددًا فى قصص المجموعة ليست ذاتًا مؤكدة، ملموسة، تستوعب ماهيتها، وإنما هى أشبه بطيف أنثوى «ممزق» يحوم حول أوهام تجسّده. تناوش ضبابيته المتناثرة «المعانى» الاستعبادية لتمثله فى صور اعتيادية مختلقة. هذا الطيف هو الفكرة الغامضة للذات التى تكمن بين أصلها المفترض وادعاءات وجودها فى العالم. الفكرة التى تفكك بالضرورة ما يمكن أن يُشار إليه كحضور واقعى لها، وبالتالى تحاول أن تتقمص الاحتمال الغيبى المراوغ الذى يتخطّى تجسّدها. الاحتمال الذى يتجاوز وجودها «البديهي» أو الإكراهات النمطية من الأفكار والمشاعر والصراعات التى كان على هذه الذات أن تتمثل من خلالها. هذا التقويض إذن يمتد طوال الوقت من لحظة «المخاطبة» إلى تاريخها السرى، أى من مفترق الطرق الذى تتخطى عنده «الرسالة» الحدود القامعة للذات ك «موضوع قهرى» إلى آمادها المخاتلة التى لا تُدرك، ولا تبرهن على نفسها إلا بواسطة الهزائم الحسية. لا يبدو الأمر كفاحًا لاسترداد ما تم استلابه تحت وطأة خداع قدرى لا يتعطل وحسب، وإنما سعيًا غريزيًا لاستعادة ما حُرمت هذه الذات البديلة من امتلاكه من قبل أن يمارسها «الحياة والموت» حيث كل ما يُكتشف «زيفه» عند مراجعة مشاهد الماضى ليس إلا دليلًا لهذا الأصل المبهم، المحتجب كلعنة استباقية غير مبررة، لا موضع الخسارة نفسها.

«أتسائل: أين الخطأ؟ هل أنا من لا تعرف كيف تقول؟ أم أنت الذى لا يعرف كيف يسمع؟ لست على يقين من أننا نتكلم نفس اللغة. مع أنى أحرص على قول كل الكلمات الضرورية لصنع جملة بسيطة واضحة مباشرة دون قسوة، لتعرف إلى أى حد لم تعد هذه الحياة تناسبنى. أنا لا أتهمك ولكنى أطلب منك ببساطة توضيح ما تشعر به».

لكن تقمّص الاحتمال الغيبى الذى يطارده «الشبح» بواسطة «المونولوج الداخلي» ليس محاولة للتوحد أو المسايرة للأصل المفترض «الغائب» لذات «الساردة» بقدر ما هو خلق لهذا الأصل على نحو مضاد، ذلك لأن «المخاطَبة» بعجزها عن استرجاع «المخاطِب» فإنها لا تملك سوى أن تمحو أقنعته، وهذا تحديدًا ما تؤديه الكتابة. هذا تحديدًا ما تقوم به «الرسالة» حين تكون «قصة قصيرة». إن الساردة ك «طيف» توثق يقينها بأنها تستعير وجوهًا، أصواتًا، صمتًا لا ينتمى إليها، ذلك لأن تلك الشروط الحتمية هى التى كوّنت «حياتها وموتها» وليس «غيبيتها». هذه «المعرفة» فى حد ذاتها إفاقة مناقضة لأنها قائمة على الغفلة لا على الفهم. على استيعاب أن الذات «حكاية مجهولة»، يجدر عدم الاعتراف بأى تعويض عنها حتى تظل حية فى مخبأها أى فى الرسائل التى تُكتب تحت أنقاضها.

«سوف نخبر الطفلين أن حياتهما ستتغير، بكلمات مراوغة وجبانة، سنخبرهما أن لا يقلقا؛ أبوهما وأمهما يحبانهما، وهذا هو المهم، سوف نكرر هذا. الليالى التى يقضيانها بلا نوم، محاولات إنقاذ العلاقة، أنفاق الغيبوبة المظلمة، الأمل الهارب، كلها أشياء خربت صحتهما وأنهكتهما، ولكن أبويهما سوف يتماسكان أمامهما، مبتسمين تقريبًا، وسوف يقولان جملتين، أو ربما أكثر، جملتين أو ثلاث جمل مركبة خصيصى لهذه المناسبة، سلسلة من الكلمات التى تشرح الحب ونهاية الحب، الحب الذى نكنه لهم، والحب الذى لم يعد يكنه كلانا للآخر».

إن محو الأقنعة يعنى تأكيدها، استنطاقها، استجوابها، كيف تستعمل هذه الأقنعة الساردة التى فقدت وجهها «الكوني» قبل أن تكون أداة بشرية للفناء. هذا التأكيد يمثل نوعًا من الإرجاء الذهنى لوهم التجسّد، تأجيل هيمنة الصور المختلقة، كما لو أنه نوع من إعطاب الذاكرة عن طريق التسلل إليها من الباب الخلفى. كما لو أن «ادعاءات الوجود» كافة لم تحدث بعد، وحينما «يبدأ» الحضور الواقعى للذات دون خيانة لمداراته السابقة فإن شبح المرأة ربما يكون قادرًا على التحديق إلى ذلك المتعيّن بكيفية «استثنائية» مغايرة. ربما يكون قادرًا على فهمه، تعديله، استدراكه، استبدال الزمن بالخيال، رتق التمزق، التحرر من المعانى، ملامسة الأصل المفترض، تحويل الاحتمال الغيبى إلى حقيقة أبدية، الانتقام من البداهة، الإكراه. ريما يكون قادرًا على استعمال ذخيرته الوحيدة من الهزائم الحسية فى تحويل «التاريخ السري» للذات إلى آماد مدركة، حصينة، نقية من الخداع القدرى. لتحويل مسار اللعنة إلى مصدرها.

«(بابا) سيكون من جهة، ومن الجهة الأخرى (ماما)، ولن ترياهما أبدًا معًا، سيكون كل واحد منهما فى كوخ، لا تخافا، هذه ليست قصة عقلة الإصبع، (بابا) و(ماما) لن يتخليا عنكما، بل على العكس، سيتقاتلان ليحصلا عليكما، سيتحولان إلى عدوين للاحتفاظ بكما».

لا يتعلق الأمر ب «إنقاذ» فعلى  دون استبعاده مهما كان مستحيلًا أو خارقًا أو يأسًا متنكرًا  وإنما ب «التفكير» فى هوية ما يُسمى ب «النجاة»، فى اللغة التى ينبغى استخدامها عند التفكير فى النجاة. «الرسالة» هى التى تكتب نفسى، تكتب الآخر والمجهول من خلال كتابتها لنفسى. «الرسالة» ذاتها هى التى فى حالة اختفاء أزلى، وذلك فقط ما يسمح لها بأن «تكتبنى» دون تورط فى «حياتى وموتي». النبرة هى السر الحميمى الماكر للرسالة، الذى يجعلنى أعتقد بأننى أتحدث، أخاطب نفسى عبر مسافة آمنة، أكثر قربًا من المطلق الذى كنت عليه قبل أن أكون «جسدًا»، وأكثر بُعدًا عن عمائى.

«أنت الكاتب الكبير. إنك تستحق أكثر من عائلة، زوجة وأطفال ينتظرونك، هم رهن إشارتك، القادرون على تحمّل أسوأ ظروفك وأن يتعودوها، دائمًا، غيابك، حاجتك إلى العزلة، حريتك، كى تستطيع عيش إلهامك حتى آخره. إنك تستحق أفضل من مجرد امرأة لا يميزها شيء، ليست ممثلة فى السينما أو صحافية. امرأة تعمل كموظفة خدمات اجتماعية، لا شيء يستحق عناءك بالتأكيد! لكنها تحبك مع ذلك، هل تستحق أكثر من امرأة تحبك؟ من تعتقد نفسك؟».

كيف يمكن إذن أن تكون كتابة الرسالة للساردة فى الأساس لعبة الساردة نفسها؟. حينما تسخر الساردة ولو ضمنيًا من النجاة. حينما تجعل الرسالة تنتهك لغتها لحظة الكتابة، أى تدفعها لخلخلة الروابط والعلاقات التى طالما أقرتها هذه اللغة. كأنه ثأر من الاختفاء الأزلى لهذه الرسالة. حينما تكون النبرة ل «شبح» يدرك أن مونولوجه الداخلى مجابهًا لكل سياق جاهز للخلاص، خاصة لو كان وعدًا مخبوءًا خارج العالم.

«لا أريد أن أعارض المسار الثابت للأشياء. يستغرق التهاب الحلق ثمانية أيام، وعشرة للزكام، وعامين لفقدان الرجل الذى نحب. وبخلاف هذا سوف تتحول الحياة إلى فوضى. إذن بصفتى مواطنة صالحة، فأنا أظهر وجهًا آخر، لم يعد يناسبه وضع أحمر الشفاه فوقه. أقدم نسخة مطمئنة من نفسى تطارد النموذج السابق، المنكمش، الباهت، المدمَّر. لن أكون أبدًا مصدر قلق، أو منبعًا للإزعاج. لن أكون الضحية التى يجب رعايتها. سأعفيك من تحمل مسؤوليتى يا أبى، لا تخف عليّ أبدًا. سوف أصلح جميع أعطابى بنفسى».

ثمة سؤال شائع فى ورشتى القصصية عن الحيلة التى يمكن للكاتب استخدامها عند استغراق الشخصية فى التحدث إلى نفسها كى لا تصبح قصته «محض استرسال فى التفكير». كانت إجابتى هى جعل الشخصية تقطع تدفق أفكارها من حين لآخر بالالتفات إلى شيء مادى داخل محيطها أو ذاكرتها. اجعلها تشير أو تنتبه إلى كيان مرئى، حركة ملموسة عبر الحيز الذى تسكنه أو فى ماضيها، على أن يكون ما تلاحظه متصلًا بذلك التأمل الباطنى أو المخاطبة الذاتية دون تكلف أو فضح، بحيث يثبت كل منهما الآخر ويجادله ويتعدّاه بعفوية ومواربة كأن سر كل شيء يتوزع فى جميع الأشياء. «نبالغ فى تقدير الحب» تقدم نماذج عملية لهذه الحيلة؛ فالتحليلات الذهنية فى قصص بريجيت جيرو دائمًا ما تستند إلى ارتباط المجازى بالحسى، إلى المزج بين تشريح الذكريات والأفكار والعواطف المتناقضة وبين الإيماءات التلقائية نحو ما هو ظاهرى، مقصود دون مباشرة، حيث التأكيد والنزاع المتبادل ينشط بصورة غير محكومة فى خفاء هذه الصلة.

«لم أكن أعلم أن مكان الموتى يتحرك، وأنه يتبع الخطوط العريضة، وأنه يصبح خائفًا فى بعض الأحيان، وفى أحيان أخرى يكون سريًا إلى درجة إثارة الحيرة. كنت أنظر بشيء من الاشمئزاز إلى برناديت لافون، داخل بلوزتها الرقيقة، دون أن أشك ولو لحظة واحدة أنها تعانى صعوبة فى التنفس، وأنها ستتناول بلا شك أدوية مهدئة لتستطيع النوم تلك الليلة».

عنوان المجموعة «نبالغ فى تقدير الحب» هو البصمة الساطعة للسخرية التى جعلت بها بريجيت جيرو مجموعتها لعبة للساردة فى قصصها القصيرة. عنوان مُصاغ بذلك القالب التهكمى المألوف الذى يُعرّف شيئًا ما ب «ضرره البسيط» تأكيدًا واستهزاءً ب «الوحشية التى لا توصف» لهذا الشيء، وهذه السخرية ليست من «الحب» ومعجزاته فحسب : النفور، الحيرة، الخواء، تعذيب الأطفال، المهانة، الفقد، الحرمان من العزاء، لكنها سخرية كذلك من الثمن الملغز الذى يحلم الشبح رغمًا عنه بالحصول عليه بواسطة الرسالة، التى  فقط وعلى هذا النحو  يقودها المونولوج الداخلى لأن تكتب نفسها.